احاديث ياسمينتى -الحزء الثانى- العاشق الأخرس:

احاديث ياسمينتى
(2) العاشق الأخرس:
قمر مكتمل وسماء صافية ونجوم، والضوء الفضى الخافت يجعلني اسرح في حلم رومنسي مجنون، ونسيم شرقى رقيق يحمل عبقا غامضا يزيد تأجج نيران عواطفى، وانا في حديقتى اجلس على مقعدى الوثير انظر بشغف وفتنة لياسمينتى الحبيبة وتنظر الى زهورها الصامتة تلك النظرات الحلوة المتسائلة التي افهمها انا وحدي، وبين الحين والحين كانت تهز أوراقها فتتلامس مصدرة صوتا رخيما يرجونى أن أتكلم، ان احكى، أن أبوح لها بما يجيش داخل صدرى، وإذ ترانى مغرقا في صمتى، تهز زهورها الجميلة البريئة في حيرة ويأس وتعود لتحدق في وجهي بصبر العاشقين، ومن مكان خفى بعيد تناهى الينا أنين ناى ترتعش نغماته الحزينة في الهواء وتتماوج في لحن عذب ساحر جعل روحى تطير محلقة في سماء لانهائية بأجنحة نورانية شفافة، ومع انسياب اللحن وتدفق انغامه الموجعة بدا لى وكأن العازف الغامض يوفق تماوج الحانه ما بين الارتفاع والانخفاض، الاقتراب والابتعاد، مع تراقص ألسنة النيران المتأججة داخل قلبى، وبدأ اللحن يخفت رويدا رويدا قبل ان ينتهى بانة شجية طويلة، تكسرت على صخور غير مرئية، فجعلت نيران عواطفى المشبوبة تتوهج وتتناثر شرارتها داخل صدرى كما تتناثر باقات الشرر من جذوة اعشاب برية جافة في ليلة مظلمة فندت عنى آهة عفوية طويلة جفلت لها ياسمينتى، وارتعشت اوراقها، ثم لم تلبث ان تمالكت نفسها وعادت ترجونى بإلحاح بصوت حفيف اوراقها الهامس ان احك لها قصتى، حسنا، فلتعلمى يا ياسمينتى العزيزة انه لا شيء احب الى من ان ابوح لك بمكنونة قلبى، لكننى أخاف عليك من احزانى، والاحزان نيران حارقة، اخشى عليك ان تمس اوراقك الندية فتجف وتلفح زهورك الرقيقة فتذبل، فتتكرر مأساتى و يتحطم قلبى تماما ... توقفت ياسمينتى المشرقة عن الهمس وعادت لتحدق صامتة في وجهى بتلك البراءة الطفولية التي تذيب الإرادة في قلوب اشد الرجال بأسا وقدرة على التجلد... حسنا ايتها الحبيبة، مازال الليل طويلا، وسأحكي لك قصة شبيهة بقصتى، ولكن اقل ايلاما بحيث يمكن ان تتحملها ياسمينة رقيقة مثلك، قصة صاحب هذا الناي العجيب الذى مازال صداه يتردد في الأثير، وهذا اللحن العبقرى المشبوب المسحور، الذى جعل كلانا ينصت مأخوذا مبهوتا، هي قصة جميلة خلدها عاشق مجهول في مخطوطة هيروغليفية قديمة، قرأتها منذ زمن بعيد ثم اودعتها حنايا قلبى فصقلتها نيرانه الشفافة النقية المحتدمة على الدوام، حتى صارت تلمع كالبلور الثمين، والقصة عذبة، تتحدث عن عاشق اخرس يسمى " أي ناي"، هل سمى بالأخرس لأنه لا يستطيع الكلام ام هو اخرس لأنه لم يستطيع الكلام..؟ لا احد يعلم، لكن المؤكد هو أنه كان راعى أغنام اسمر بلون طمى النيل، طيب القلب كطفل صغير، وفى يوما ما، وبينما كان يرعى أغنامه وحيدا قريبا من شط النيل، رأى فتاة فرعونية تملأ جرتها، كانت جميلة جمال حوريات الأساطير، رشيقة كغزالة برية، رقيقة كنسمة ربيعية، بريئة كطفلة خجولة، عندما تتحدث مع اقرانها ينساب الكلام من فمها كمقطوعة موسيقية رقيقة، وعندما تبتسم تتفتح براعم الازهار وتطير الفراشات في كل مكان، فوقع في هواها، وتأججت النيران في قلبه النقى، ولأنه أخرس لم يستطع أبدا أن يعبر لها عن حبه، حاول عشرات المرات وفشل، جرب جميع الوصفات العشبية، والتعويذات السحرية، في كل برديات الطب وكتب السحر الفرعونية، لكن الكلمات ظلت عاجزة عصية، عندئذ لجأ الى عينيه يستنجد بهما، وضع فيهما خلاصة حبه، واودعهما قلبه، واطلق في نظراته جميع عواطفه المكبوتة حتى كادت أن تنطق، والانثى تدرك بسهولة معنى النظرات، لكن المرأة تحتاج الى بعض الكلمات، بضعة كلمات، والعاشق اخرس، كانت في كل مرة تضيء فيها نظراته المشبوبة وجهها الفاتن تتوقف برهة وهى تنظر الى الأرض في حياء وكأن الضوء يبهر عينيها ثم تبتسم له ابتسامتها الطفولية العذبة الاسرة بعين مسبلة وتكمل طريقها تاركة إياه يجمع شظايا قلبه المحطم في صمت العاجز، هام على وجهه في حقول القصب الشاسعة، وابتعد واوغل في الصحراء وطال به السفر، ومن قصرها فوق السحاب كانت "نون" جنية السماء والحب ترقب عذابه في صمت، حنت له وبكت، فكرت وتدبرت، ثم قررت ان تساعده، نزلت من عليائها واعطته "بوصة" مجوفة، واوصته ان ينفخ فيها في كل مرة يشعر بنيران الحب تتأجج في صدره، اعطته هديتها، ونصحته نصيحتها، ثم تركته وطارت، ونفخ العاشق في بوصته، فلم يسمع سوى صوت حشرجة كئيبة بائسه، بكى من العجز واليأس فسقطت دمعه حارة نقية على البوصة فأحدثت ثقبا، وتلتها دمعة أخرى أحدثت ثقبا أخر، وعندما صارت الثقوب سبعا بدأت الالحان تنساب من البوصة لتردد أول ألحان الحب في الوجود واعذبها، ألحان شجية معبرة اكثر فصاحة من الف كلمة حب وكلمه، وفى الحال ظهرت جنية السماء مرة اخرى وقالت للراعى: هذه الآلة الموسيقية أصبح اسمها الآن (ناى) على اسمك يا (آى ناى)، وهى ستتكلم نيابة عنك، فقط عد الى حبيبتك واعزف تحت شرفتها كما لم تعزف من قبل، ضع في انفاسك كل مشاعرك وسترى، فرح العاشق الاخرس، وعاد يقطع الصحارى والجبال والحقول ليلتقي بفتاته الجميلة، ولكن ويا أسفاه، عندما وصل كانت قد وقعت أسيرة في براثن مارد الظلام القبيح الذى حبسها فى قصر كئيب مرصود مجهول العنوان، وعاد العاشق المسكين ليهيم على وجهه يبحث عن قصر حبيبته وعندما يشعر بالتعب يجلس ليعزف لحنه الحزين المعذب- لحن الراعى الهائم الوحيد ثم يكمل بحثه المحموم.
تشاغلت بالنظر إلى القمر، وقلت وكأني أُستشهد به: أتعلمين يا اميرة الياسمين أنه بعد مرور مئات السنوات على هذه القصة مازال الناس يسمعون في بلادنا بين الحين والحين صوت أنغام ناى حزينة شجية تنبعث من مكان مجهول فيصيخ أرقاء القلوب من الرجال السمع بلهفة ويتوقفون عن الحديث وعندما ينتهى اللحن يعضون على شفاههم في اسى ويهمسون وهم يشيرون الى الأفق: مسكين مازال "الراعى الوحيد" المعذب هائما، ألم يأذن الله لقلبه المتعب ان يستريح!! ثم ينفضون رؤوسهم ويذهب كل الى حال سبيله، أما النساء فكن -بحكم طبيعتهن الملائكية الرقيقة- يذرفن الدموع سخية ساخنة، وربما صرخت إحداهن في لهفة قائلة: بالله عليك يا أيها العاشق المسكين، اعزف لنا مرة أخرى فأنغامك الحزينة العذبة تعزى ارواحنا وتشفى جروح نفوسنا، وسندعو الله لك من قلوبنا الطاهرة ان يجمعك بها، تصمت المراة وتعود الالحان لتنساب من مكانها الخفي أكثر حزنا ولوعة. غطى القمر عينيه بسحابة عابرة جعلت وجهه يبدو أكثر شحوبا، ومالت ياسمينتى نحوي مرتعشة وكأنها تحاول ان تسند رأسها الصغير على صدرى فلمعت قطرات من الندى على صفحة خدها الأبيض عاكسة ضوء القمر للحظة خاطفة ثم انسابت على بتلاتها وسقطت على الأرض تباعا فبدا لى وكأن ياسمينتى الحنونة تذرف دموعا طاهرة، او ربما كانت دموعا حقيقية، ومن مكان بعيد في الأفق صرخ كروان عاشق معذب صرخته الخالدة: اشكو لك لك يا صاحب الملك، ثم اختفى صوته فجأة كما ظهر وكأنه فقد القدرة على الكلام، والكروان له قصة حزينة، والقصة عذبة، ولولا ان الوقت تأخر لقصصت عليك أحداثها العجيبة، ولكن اعدك ان افعل هذا غدا او ربما بعد غد، ولكن عدينى بدورك– يا مليكة قلبى الطاهرة- الا تتركيني ابدا مهما حدث، عديني ان تكونى شديدة الحذر، فعندما يعزف العاشق الاخرس في الجوار فهذا يعنى ان مارد الظلام الشرير قد عاد ليجوس في هذه الأنحاء، وانا لا ناى لدى ولا الحان.
د. منذر محمد عبد الرحمن صان الدين #منذر_صان_الدين
من كتابى
قهوة وياسمين وطفل صغير - تحت الطبع

ملحوظة: الخط الرئيسى لقصة (آى ناى) وأول ناى ظهر في الوجود ذكرت بالفعل في نقوش فرعونية قديمة مع اختلاف الوقائع والسرد والأسلوب.






تحذير
هذا النص محمي بموجب قوانين حفظ حقوق المليكة الفكرية ويسمح بنقل النص او باقتباس جزء منه مع ذكر اسم الكاتب، كما يمنع منعا باتا اقتباس او نقل الموضوع باي طريقة
الكترونية او غير الكترونية الى كتب او اسطونات تجارية دون اذن مسبق من صاحب المقال.