مرارة الوعد

مرارة الوعد
د. منذر محمد عبد الرحمن
بينما كنت اقلب صفحات مخطوطتي النادرة الثمينة، سقطت من بين طياتها ورقة قديمة مهترئة، خط عليها أحدهم مناجاة عجيبة لروح والده الذكية -كما يقول- كتبها بلغة عربية سليمة، ورغم بهتان حروفها وتآكل بعضها إلا اننى استطعت بعد جهد ان استوضح ما استعصى على تبينه من كلماتها، واخمن ما محاه الزمن من حروفها حتى بانت واكتملت وأصبح للجمل معنى مفهوم، فكانت المناجاة كالآتى:
مازلت اتمثلك يا ابى وأنت تنظر إلي بتينك العينين الحنونتين المشفقتين وتقول ناصحا باسلوبك العذب الذي يشبه الشعر: لا تقرأ يا ولدى قصصا تملؤها أوهام الحب، قضيت سنينى يا ابنى ارقبك بعمق، طفل فى صدرك منسى، لن ينضج يوما، وخيالك مجنون رحب .. طفل وخيال وغرام يجتمعوا .. ينفطر القلب، وعيون الغيد المكحولة تقتل في صمت.. "روميو" و"القيس" و"كُثير" فرسان سقطوا بسهام مصنوعة من لحظ عيون يملأها السحر، عبلة قتلت بشموخ عاشقها العربى الصلب، تصمت ترمقني وتتمتم في خوف، ولدى: قلبك مغمور في صدر يملاه الود، ما اشقى أن يعشق قلب مخلوق من ورق الورد، هل تعقل منى ام تغرق في عطر الوهم؟
ووعدتك يا ابتى أن احبس ذاك الطفل، الا اسقى أوراق الورد، ان اهمل اجمل قصة حب، وكبرت، وسنينى طالت في الأسر، لكن الطفل الكامن داخل صدرى لم يكبر ابدا، هو دوما يبكي، يتألم، ينشج ويدق الجدران، ينزع أوراق الورد، يملئها شعرا وكلاما يجعلنى اغرق في الاحزان، الطفل المرهق يا ابتى يأبى النسيان، وخيالى مازال يعربد، والقصة عذبة، تتحدث في الفصل الأول عن بحر ازرق وردى الشطآن، عشب وزهور وطيور تترنم ما بين الأشجار، و شراع ابيض منشور وأمير ينتظر الربان، يتسلى ، يقطف ياسمينا ينظمه عقدا لأميرة تنتظر بشوق الولهان، والفصل الثانى ..؟ هل اقرأ..؟ والوعد الجاني ؟!!..
أرجوك اغفر لى يا ابى ان اخلفت وعدي، فلقد أكملت ليلة أمس قراءة قصتي الأثيرة في رحاب عيني اميرتى الواسعتين الوادعتين وابتسامتها المشرقة تضئ لى صفحات الكتاب..؟ هل تعلم يا ابى ان ضوءها اصفى وأرق وأبهى من ضوء صديقي القمر، لا .. لا تجزع فهى طيبة الأخلاق مثلك يا ابى، رقيقة حتى انني اخاف ان تجرحها أنفاسي المتلاحقة رغم الحاجز الذي يفصل بيننا، هل تصدق ان الطفل قد توقف عن النشيج ؟ لقد مرق من بين القضبان وجرى الى احضانها واسند رأسه المتعب على كتفها ونام سعيدا وقد ارتسمت على وجهه البريء ابتسامة وديعة وترددت أنفاسه هادئة مطمئنة لأول مرة منذ ميلاده ـ نام الطفل يا ابى وانا انظر له بغيرة وارتياح ولكنها لم تنم، فقد أعجبتها قصتنى الساذجة ورجتني بصوت خفيض لا يقاوم انا احكي لها قصة أخرى ، بالطبع حكيت - وهل يمكن لقلب مخلوق من ورق الورد ان يضن برحيقه الحلو على فراشته الاثيرة!! ولما خلق الله الرحيق إذا..!! وهل توقف البلبل يوما عن ترديد الحانه الشجية في حضرة وليفته الوفية، ولمن تعلم التغريد إذن!!.. حكيت لها عن كروان صامت حزين هام حبا بياسمينة وحيدة مترددة خجولة، فتضرع الى الله وشكى ودعا دعاءه الخالد: اشكو لك يا مالك الملك، والملك رحيم، لا يهمل ابدا شكوى كروان ملهوف، وبكلمة كن نبت للياسمينة جناحان رائعان كأجنحة الملائكة وفاح العبير الحلو من أنفاس الكروان السعيد، لا تجزع أبدا يا ابتى فخيالى الجامح لم يتجاوز حد المعقول، وصديقي القمر السهران اكد لى انه شاهدهما يطيران سويا ناحية كوكب وردى بعيد وهما يرددان انشودة صوفية ساحرة يقسم لى أنه لم يسمع أعذب منها طيلة عمره المديد، حتى انه شعر بدفء عجيب يسرى في قلبه العجوز الجامد البارد جعله ينظر بحنين إلى نجمة الصباح الجميلة الساكنة بجواره منذ الاف السنين، هكذا اعترف لى هامسا ونجمته ترقبنا من بعيد في خجل، القمر سعيد يا ابتى والطفل سعيد، واريج الوردة في صدري يملئني بهجة ويفيض، وأميرة قلبى ترجونى احكى وازيد .. فهل اقرأ..؟ و الوعد الجاني ؟!!.
ابتاه ..مازلت أتذكر وصاياك ..مازلت اؤمن بحكمتك، لكننى أدمنت براءة الأطفال، وفتننى خيال الشعراء، وطاب لى ان انثر أوراق الورد تحت اقدام اميرتى ، وراق لى العيش بقلب عليل متصدع ... فهل تغضب؟!
د. منذر محمد عبد الرحمن صان الدين #منذر_صان_الدين

من كتابى
قهوة وياسمين وطفل صغير - تحت الطبع






تحذير
هذا النص محمي بموجب قوانين حفظ حقوق المليكة الفكرية ويسمح بنقل النص او باقتباس جزء منه مع ذكر اسم الكاتب، كما يمنع منعا باتا اقتباس او نقل الموضوع باي طريقة
الكترونية او غير الكترونية الى كتب او اسطونات تجارية دون اذن مسبق من صاحب المقال.