رحلة الراهب الى بحر اللهب (قصة قصيرة)
منتدى محبى الشاعر محمد صان الدين :: الأبداعات النثرية للشاعر محمد صان الدين :: قصص ومقالات بقلم الشاعر محمد صان الدين
صفحة 1 من اصل 1
رحلة الراهب الى بحر اللهب (قصة قصيرة)
***رحلة الرهب ..الى بحر اللهب
***
تصوير/ محمد عبد الرحمن صان الدين
"جلست على شاطئ البحر فوق صخرة ناتئة من الأرض كلسان هائم ممتد إلى الماء يروم الرى والتبرد، أو كأنها عنق طفيلى يتطلع إلى معرفة ما يكن البحر فى أعماقه من أسرار وعجائب، متحدية لطمات الموج وعربدة الرياح العاتية، وقد أخذت فى ترشف قدح من عصير الفاكهة المثلوج، وأنا على أصفى ما يكون المرء ذهنا وحسا، أستقبل الانسام الندية العبقة وابترد بقطرات الماء الشاردة من الموج المتكسر على الصخرة الصماء التى أجلس عليها، كل شئ حولى هادئ جميل البحر ساج وديع، والسماء مصحية وشمس الضحى مازالت أشعتها فى فتور النوم لم تحتد بعد، ولكنها بعثت فى الأرض الحيوية والأنس والبهجة.
وأرسلت طرفى إلى عرض البحر الذى لايبلغ مداه البصر أتابع الفلك القادمة إلى المرفأ والمقلعة منه إلى غاياتها ترفرف عليها أعلام الأمم التى تنتمى إليها . كل ما أراه ، وما أحس به ساحر بهيج يهدهد المشاعر والوجدان، ولكن ما إن بلغت بى البهجة مداها والمتعة أوجها حتى وجدتنى على النقيض ـ كما هو شأنى عند حالات الإنبساط النفسى ـ انبعاثا من حقيقة أن كل متعة فى الحياة حين تصل غاية مداها تذبل وتجف، وكل لذة عندما تبلغ أوجها تموت، ففجأة وجدت لسانى يهينم بالآيات الكريمة ذات الأسرار الرهيبة " والبحر المسجور (1)" "وإذا البحار سجرت (2)" "وإذا البحار فجرت(3)" وقد أخذت معانيها تربو وتمتد وتتشعب فى خاطرى ووجدانى، ورحت أسائل نفسى: ترى متى ؟ وكيف ؟ أما متى فلا سبيل إلى معرفته، فعلمه عند ربى قد تكون ـ أى الساعة ـ بعد لحظة، وقد تكون بعد أجيال ودهور وأما كيف فكل تصوير وتخييل لما يحدث ما هو إلا تقريب يناسب عقل الإنسان الضئيل. وتجاربه المحدودة فى الحياة، وقدرة حواسه على التحمل، وقد بلغ القرآن الحكيم مدى ما تحتمله الألفاظ، ووفى غاية ما تستوعبه على مدى الدهور، إلى أن الحقيقة التى لا ريب فيها هى أن الساعة تأتى بغتة دون توقع وانتظار، ومن يدرى لعلها فى القريب تكون ، فإن الكثير من أشراطها ومقدماتها التى أخبر بها الصادق الأمين ـ محمد صلى الله عليه وسلم قد ظهرت فى واقع الحياة وتوالت تترى .
وهنا تحركت لأغير من جلستى، وأستنشق نفسا عميقا من نسيم البحر المترقرق وقد نجمت فى نفسى رغبة عجيبة ولكنها وجلة مرتعشة فهززت رأسى مبتسما وقلت: ما أكثر شطحات النفس وجنوحها، وما أعجب أن ترغب فى رؤية البحر المسجور " المشتعل " على أن أكون فى درع الأمان وحصن السلامة
ولكن ما بال العلم، هل عجز سلطانه وجبروته عن تحقيق ما يطمح إليه الإنسان ذلك المخلوق العجيب ؟ أم ماذا ؟ ألم يحضر الذى عنده علم من كتاب عرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس فى الشام عبر آلاف الأميال فى طرفة عين، ولست أدرى من يكون ذلك الذى عنده علم من الكتاب.
أهو إنسان أن ملك أم مخلوق آخر ؟ إن القرآن الكريم لم يكشف لنا عن ماهيته وسره فليبق كما شاء الحكيم العليم فى طى الخفاء كما بقيت حقيقة البراق الذى سرى بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام ـ إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى ما فوق السماء السابعة، وعاد به فى هزيع من الليل، ولا تسل كم قطع فى تلك المرحلة المذهلة من مسافات بين السماوات تستغرق بلايين البلاييت من السنين الضوئية، وجاء من رحلته تلك بأخبار عن الماضى والحاضر والمستقبل فلا شك إذاً أنه انطلق بسرعة تفوق سرعة الضوء المستحيلة على قدرة الإنسان وطاقته الطبيعية المعهودة، إلا أن الحادثين قد وقعاـ و إن كانا خارقين، وما أحسبها إلا قدرة القدير الكامنة فى قوله كن فكان
ذلك ما كان فى غابر الزمان ، فما شأن العلم فى العصر و الأوان ؟ لقد صنع الكثير المعجز من مفاتيح مكنون الطبيعة ، واستخدام ما توصل إليه من طاقات تعجز عنها مردة الجان ، ألم يصنع الإنسان بالعلم مركبات و أجهزة تسير بأسرع من الصوت، فتصل ما بين أطراف الأرض فى لحظات، وتنطلق فى الفضاء فتقتحم الكواكب والنجوم، وتنتقل إلينا نحن البشر فى كل مكان كل عجيب من مسموعات ومرئيات ونحن فى حجراتنا على المقاعد والأسرة ـ عبر آلاف الأميال فى دقائق إن لم يكن فى ثوان، مخترقة الأجواء ، قاطعة الصحارى، والجبال والأنهار.
كل هذا صحيح يجرى فى الواقع فما علاقته بالبحر المسجور المستتر خلف الغيب فى المستقبل المجهول ، فلا تناله حواس أو عقول ؟
لقد جاء أساطين العلم، وعمالقة المعادلات الرياضية التى مكنت الإنسان من إطلاق مارد الطاقة الجبار المذهل من سجنه والذرة التى لا تكاد ترى، وأضافت إلى الأبعاد الثلاثة "الطول والعرض والعمق" بعدا رابعا هو الزمن فما غير الكثير من المعتقدات والمفاهيم السائدة، وجعل العلماء يقررون أن العلم لو توصل إلى صنع مركبة تنطلق بسرعة الضوء لقهر الأبعاد التى منها الزمن، ولرأى الإنسان بعينيه حقائق الوجود، و أحداث الزمان فى الماضى والحاضر والمستقبل، ولكنهم عادوا فأقروا بأن ذلك إن لم يكن مستحيلا فهو فى حكمه، وهنا سطع أمام الفكر قول الله تعالى فى سورة التكاثر. " كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم " ومن لنا بعلم اليقين الذى يرينا الجحيم ونحن على ظهر الأرض قيد الحياة، وآه من "لو " هذه تلك التى سدت الطريق أمام نزعات النفس وجنوح الفكر. فقلت : إذن العلم عاجز وطبيعة الكائنات تأبى، ولستَ رسولا يخضع الله له نواميس الكون، فأنى لى الوصول إلى البحر المسجور الذى تروم النفس استطلاع مشهده ـ والعياذ بالله ـ وما أكثر المنى وأقل الأسباب .
وبينما أنا فى بلبال من أمرى تدفعنى رياح الرغبة، ويصدنى جبل القنوط إذ سنحت لى سانحة من خاطر حولت عجزى إلى قدرة، وحيرتى إلى مضاء فقد اكتشفت أنى أملك المركبة التى تبلغنى ما تصبو إليه النفس بأسرع من الضوء الذى تحدث عنه العلماء دون شر يلحقنى أو خطر يتهددنى .
إنها التصور والخيال أجل .. أجل إنهما المركب الذلول التى يملكها كل إنسان حسب إمكاناته الفطرية والعلمية إن أحسن استخدامها، وهى طوع أمره ، ورهن مشيئته .
عند ذلك لم أتردد ولم أتأن، وفى أقرب من لمح البصر، امتطيت متن التصور، وبسطت أجنحة الخيال، متزودا بتصوير القرآن، وسافرت فى مستقبل الزمان إلى البحر المسجور، فما هى إلا ومضة برق خاطف حتى كنت هناك، فرأيت وسمعت، ويا هول ما رأيت وما سمعت لقد انطفأت الشمس كما ينطفئ المصباح حينما ينقطع عنه التيار الكهربى فى ليل حالك السواد لا نجوم فيه تلمع، ولا كواكب تسطع، فتجعل للوجود معالم وأبعادا تهدى فى ظلمات البر والبحر، وكأنى قد هويت فى جُبِّ محكم الغطاء لا قرار له، وطفقت أتجلجل فيه لا أرى شيئا، ولا أحس إلا بصقيع أكاد أجمد معه وأتحول إلى جليد، ولاحت منى التفاتة حائرة مذعورة فوقع بصرى على مشهد رهيب .. رهيب، ومنظر يشيب ، ويجعل الوليد مثلى بل يزيد، إنه الرعب الساحق، يعانق الهول الماحق، وقعت بينهما وحيدا مفردا، لا عاصم ولا ظهير، وأظننى صرخت قائلاً: يا إلهى .. ماذا أرى : البحر نار تتأجج، والموج سعير يتضرم، ولهيب يشق صدر لهيب بألوان حمراء، صفراء، زرقاء، سوداء، بل كل ألوان الطيف، وينبعث من ذلك الأتون المتسعر شهيق وزفير، وزمجرة وهدير مما يصعق كل حى، ويذيب كل شئ، وقد أخذ ذلك الجاحم المتفجر يتجشأ جشاء ما قرع الأسماع ولا أقتحم الأنوف أفظع ولا أنتن منه، وما ذلك الذى يمتد من قلب السعير متقذفا فى هوج وجنون ؟ إنه أعناق هائلة من اللهب تتلوى وتتلفف فى عربدة وسعار، وقد أخذت تتضخم وتستطيل حتى بلغت مدى كل حد، ونهاية كل فج، وملأت الآفاق، وسدت كل منفذ ومهرب، وقد أشرفت من تلك الأعناق رءوس بالغة العظم كأن كل رأس منها طور أشم، لها عيون كفوهات البراكين الثائرة، تحدق فى غيظ وحنق، وهى تقذف بالحمم وترمى بالشرر، وعلى سبيل التقريب كأنها عيون أصلات " ثعابين ضخمة " هائمة غازية، ووحوش جائعة ضارية، انطلقت من سجن تبحث عن فرائسها المشتهاة، وما فرائسها إلا الناس والحجارة، وقد برزت منها مناقير أصلب من الحديد تقصر وتطول، أخذت تنقض هنا وهناك لتلتقط من بين الحشود الذاهلة من البشر من غلبت عليه شقوته، كما يلتقط الهدهد ما تعرى من دود الأرض إلا أن الدودة تستقر فى حوصلة رطبة لينة وذاك يندفع إلى قرار الجحيم، وصرت كلما التقط منقار من تلك المناقير الرهيبة إنسانا أحسست بقصعة داخل المنقار وأنا فى منأى عنه، وأنا لا أعرف فى تلك الحشود البشرية أحدا، ولا يعرفنى أحد، وليس بيننا إلا رابطة الإنسانية، ودب فى نفسى أنى أحمل سراً جعل ذلك اللهب المارد المهول يتحاشانى وينأى عنى، وما كاد ذلك الخاطر يبسم فى خلدى حتى وجدت كل هاتيك الأعناق المسعورة تتحول إلى، وتلتف حولى، وتكاد تطبق على من كل جانب، ولا واقى منها ولا حاجز، فاشتد بى الكرب، وعلا وجيب القلب، وانبهرت الأنفاس، وزاغ البصر، وليس ثم مناص أو مفر، فناديت صارخا : يا أرحم الراحمين بك أستغيث وأستجير، ـ وعند الشدة يعرف الإنسان ربه ـ وسرعان ما نكصت جحافل اللهب مرتدة خابية ثم اختفت فى جوف اليم، وكأن شيئا لم يكن، ونظرت فإذا بى أجدنى جالسا على مقعدى فوق الصخرة الممتدة فى الماء، وإذا الشمس ساطعة كما هى ترسل أشعتها العسجدية إلى سطح البحر الساجى الوديع، ومددت يدى إلى قدح الشراب لأعب الثمالة المتبقية فيه، كى أرطب حلقى الجاف، ولسانى اليابس، وقمت متثاقلا أجر قدمى من الإعياء، وأنا أتلفت حولى كالمرتاب، لأستيقن من أن الحياة الدنيا مازالت تتحرك فى مجلسها المألوف، وتجرى على سننها المعهودة ، ورحت أتمتم ـ وأنا كاسف النفس، جائش الشعور، قائلاً :
لو أن الإنسان يتدبر القرآن بنظرات ثاقبة، وأحاسيس مرهفة؛ لتكشفت له حقيقة الوجود، ولشاهد عظمة الخالق المعبود، ولما قارف إثما، أو دنس الأرض بخطيئة. ولكن ... لمن خلقت الجنة والنار؟
نشرت فى مجلة "الأزهر" السنة التاسعة والخمسون ـ صفر 1407 هـ / أكتوبر 1986 م من صفحة 252 الى ص254
كتبتها: يارا منذر – حفيدة الشاعر فى رمضان-يونيو 2018
***
تصوير/ محمد عبد الرحمن صان الدين
"جلست على شاطئ البحر فوق صخرة ناتئة من الأرض كلسان هائم ممتد إلى الماء يروم الرى والتبرد، أو كأنها عنق طفيلى يتطلع إلى معرفة ما يكن البحر فى أعماقه من أسرار وعجائب، متحدية لطمات الموج وعربدة الرياح العاتية، وقد أخذت فى ترشف قدح من عصير الفاكهة المثلوج، وأنا على أصفى ما يكون المرء ذهنا وحسا، أستقبل الانسام الندية العبقة وابترد بقطرات الماء الشاردة من الموج المتكسر على الصخرة الصماء التى أجلس عليها، كل شئ حولى هادئ جميل البحر ساج وديع، والسماء مصحية وشمس الضحى مازالت أشعتها فى فتور النوم لم تحتد بعد، ولكنها بعثت فى الأرض الحيوية والأنس والبهجة.
وأرسلت طرفى إلى عرض البحر الذى لايبلغ مداه البصر أتابع الفلك القادمة إلى المرفأ والمقلعة منه إلى غاياتها ترفرف عليها أعلام الأمم التى تنتمى إليها . كل ما أراه ، وما أحس به ساحر بهيج يهدهد المشاعر والوجدان، ولكن ما إن بلغت بى البهجة مداها والمتعة أوجها حتى وجدتنى على النقيض ـ كما هو شأنى عند حالات الإنبساط النفسى ـ انبعاثا من حقيقة أن كل متعة فى الحياة حين تصل غاية مداها تذبل وتجف، وكل لذة عندما تبلغ أوجها تموت، ففجأة وجدت لسانى يهينم بالآيات الكريمة ذات الأسرار الرهيبة " والبحر المسجور (1)" "وإذا البحار سجرت (2)" "وإذا البحار فجرت(3)" وقد أخذت معانيها تربو وتمتد وتتشعب فى خاطرى ووجدانى، ورحت أسائل نفسى: ترى متى ؟ وكيف ؟ أما متى فلا سبيل إلى معرفته، فعلمه عند ربى قد تكون ـ أى الساعة ـ بعد لحظة، وقد تكون بعد أجيال ودهور وأما كيف فكل تصوير وتخييل لما يحدث ما هو إلا تقريب يناسب عقل الإنسان الضئيل. وتجاربه المحدودة فى الحياة، وقدرة حواسه على التحمل، وقد بلغ القرآن الحكيم مدى ما تحتمله الألفاظ، ووفى غاية ما تستوعبه على مدى الدهور، إلى أن الحقيقة التى لا ريب فيها هى أن الساعة تأتى بغتة دون توقع وانتظار، ومن يدرى لعلها فى القريب تكون ، فإن الكثير من أشراطها ومقدماتها التى أخبر بها الصادق الأمين ـ محمد صلى الله عليه وسلم قد ظهرت فى واقع الحياة وتوالت تترى .
وهنا تحركت لأغير من جلستى، وأستنشق نفسا عميقا من نسيم البحر المترقرق وقد نجمت فى نفسى رغبة عجيبة ولكنها وجلة مرتعشة فهززت رأسى مبتسما وقلت: ما أكثر شطحات النفس وجنوحها، وما أعجب أن ترغب فى رؤية البحر المسجور " المشتعل " على أن أكون فى درع الأمان وحصن السلامة
ولكن ما بال العلم، هل عجز سلطانه وجبروته عن تحقيق ما يطمح إليه الإنسان ذلك المخلوق العجيب ؟ أم ماذا ؟ ألم يحضر الذى عنده علم من كتاب عرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس فى الشام عبر آلاف الأميال فى طرفة عين، ولست أدرى من يكون ذلك الذى عنده علم من الكتاب.
أهو إنسان أن ملك أم مخلوق آخر ؟ إن القرآن الكريم لم يكشف لنا عن ماهيته وسره فليبق كما شاء الحكيم العليم فى طى الخفاء كما بقيت حقيقة البراق الذى سرى بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام ـ إلى المسجد الأقصى، وعرج به إلى ما فوق السماء السابعة، وعاد به فى هزيع من الليل، ولا تسل كم قطع فى تلك المرحلة المذهلة من مسافات بين السماوات تستغرق بلايين البلاييت من السنين الضوئية، وجاء من رحلته تلك بأخبار عن الماضى والحاضر والمستقبل فلا شك إذاً أنه انطلق بسرعة تفوق سرعة الضوء المستحيلة على قدرة الإنسان وطاقته الطبيعية المعهودة، إلا أن الحادثين قد وقعاـ و إن كانا خارقين، وما أحسبها إلا قدرة القدير الكامنة فى قوله كن فكان
ذلك ما كان فى غابر الزمان ، فما شأن العلم فى العصر و الأوان ؟ لقد صنع الكثير المعجز من مفاتيح مكنون الطبيعة ، واستخدام ما توصل إليه من طاقات تعجز عنها مردة الجان ، ألم يصنع الإنسان بالعلم مركبات و أجهزة تسير بأسرع من الصوت، فتصل ما بين أطراف الأرض فى لحظات، وتنطلق فى الفضاء فتقتحم الكواكب والنجوم، وتنتقل إلينا نحن البشر فى كل مكان كل عجيب من مسموعات ومرئيات ونحن فى حجراتنا على المقاعد والأسرة ـ عبر آلاف الأميال فى دقائق إن لم يكن فى ثوان، مخترقة الأجواء ، قاطعة الصحارى، والجبال والأنهار.
كل هذا صحيح يجرى فى الواقع فما علاقته بالبحر المسجور المستتر خلف الغيب فى المستقبل المجهول ، فلا تناله حواس أو عقول ؟
لقد جاء أساطين العلم، وعمالقة المعادلات الرياضية التى مكنت الإنسان من إطلاق مارد الطاقة الجبار المذهل من سجنه والذرة التى لا تكاد ترى، وأضافت إلى الأبعاد الثلاثة "الطول والعرض والعمق" بعدا رابعا هو الزمن فما غير الكثير من المعتقدات والمفاهيم السائدة، وجعل العلماء يقررون أن العلم لو توصل إلى صنع مركبة تنطلق بسرعة الضوء لقهر الأبعاد التى منها الزمن، ولرأى الإنسان بعينيه حقائق الوجود، و أحداث الزمان فى الماضى والحاضر والمستقبل، ولكنهم عادوا فأقروا بأن ذلك إن لم يكن مستحيلا فهو فى حكمه، وهنا سطع أمام الفكر قول الله تعالى فى سورة التكاثر. " كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم " ومن لنا بعلم اليقين الذى يرينا الجحيم ونحن على ظهر الأرض قيد الحياة، وآه من "لو " هذه تلك التى سدت الطريق أمام نزعات النفس وجنوح الفكر. فقلت : إذن العلم عاجز وطبيعة الكائنات تأبى، ولستَ رسولا يخضع الله له نواميس الكون، فأنى لى الوصول إلى البحر المسجور الذى تروم النفس استطلاع مشهده ـ والعياذ بالله ـ وما أكثر المنى وأقل الأسباب .
وبينما أنا فى بلبال من أمرى تدفعنى رياح الرغبة، ويصدنى جبل القنوط إذ سنحت لى سانحة من خاطر حولت عجزى إلى قدرة، وحيرتى إلى مضاء فقد اكتشفت أنى أملك المركبة التى تبلغنى ما تصبو إليه النفس بأسرع من الضوء الذى تحدث عنه العلماء دون شر يلحقنى أو خطر يتهددنى .
إنها التصور والخيال أجل .. أجل إنهما المركب الذلول التى يملكها كل إنسان حسب إمكاناته الفطرية والعلمية إن أحسن استخدامها، وهى طوع أمره ، ورهن مشيئته .
عند ذلك لم أتردد ولم أتأن، وفى أقرب من لمح البصر، امتطيت متن التصور، وبسطت أجنحة الخيال، متزودا بتصوير القرآن، وسافرت فى مستقبل الزمان إلى البحر المسجور، فما هى إلا ومضة برق خاطف حتى كنت هناك، فرأيت وسمعت، ويا هول ما رأيت وما سمعت لقد انطفأت الشمس كما ينطفئ المصباح حينما ينقطع عنه التيار الكهربى فى ليل حالك السواد لا نجوم فيه تلمع، ولا كواكب تسطع، فتجعل للوجود معالم وأبعادا تهدى فى ظلمات البر والبحر، وكأنى قد هويت فى جُبِّ محكم الغطاء لا قرار له، وطفقت أتجلجل فيه لا أرى شيئا، ولا أحس إلا بصقيع أكاد أجمد معه وأتحول إلى جليد، ولاحت منى التفاتة حائرة مذعورة فوقع بصرى على مشهد رهيب .. رهيب، ومنظر يشيب ، ويجعل الوليد مثلى بل يزيد، إنه الرعب الساحق، يعانق الهول الماحق، وقعت بينهما وحيدا مفردا، لا عاصم ولا ظهير، وأظننى صرخت قائلاً: يا إلهى .. ماذا أرى : البحر نار تتأجج، والموج سعير يتضرم، ولهيب يشق صدر لهيب بألوان حمراء، صفراء، زرقاء، سوداء، بل كل ألوان الطيف، وينبعث من ذلك الأتون المتسعر شهيق وزفير، وزمجرة وهدير مما يصعق كل حى، ويذيب كل شئ، وقد أخذ ذلك الجاحم المتفجر يتجشأ جشاء ما قرع الأسماع ولا أقتحم الأنوف أفظع ولا أنتن منه، وما ذلك الذى يمتد من قلب السعير متقذفا فى هوج وجنون ؟ إنه أعناق هائلة من اللهب تتلوى وتتلفف فى عربدة وسعار، وقد أخذت تتضخم وتستطيل حتى بلغت مدى كل حد، ونهاية كل فج، وملأت الآفاق، وسدت كل منفذ ومهرب، وقد أشرفت من تلك الأعناق رءوس بالغة العظم كأن كل رأس منها طور أشم، لها عيون كفوهات البراكين الثائرة، تحدق فى غيظ وحنق، وهى تقذف بالحمم وترمى بالشرر، وعلى سبيل التقريب كأنها عيون أصلات " ثعابين ضخمة " هائمة غازية، ووحوش جائعة ضارية، انطلقت من سجن تبحث عن فرائسها المشتهاة، وما فرائسها إلا الناس والحجارة، وقد برزت منها مناقير أصلب من الحديد تقصر وتطول، أخذت تنقض هنا وهناك لتلتقط من بين الحشود الذاهلة من البشر من غلبت عليه شقوته، كما يلتقط الهدهد ما تعرى من دود الأرض إلا أن الدودة تستقر فى حوصلة رطبة لينة وذاك يندفع إلى قرار الجحيم، وصرت كلما التقط منقار من تلك المناقير الرهيبة إنسانا أحسست بقصعة داخل المنقار وأنا فى منأى عنه، وأنا لا أعرف فى تلك الحشود البشرية أحدا، ولا يعرفنى أحد، وليس بيننا إلا رابطة الإنسانية، ودب فى نفسى أنى أحمل سراً جعل ذلك اللهب المارد المهول يتحاشانى وينأى عنى، وما كاد ذلك الخاطر يبسم فى خلدى حتى وجدت كل هاتيك الأعناق المسعورة تتحول إلى، وتلتف حولى، وتكاد تطبق على من كل جانب، ولا واقى منها ولا حاجز، فاشتد بى الكرب، وعلا وجيب القلب، وانبهرت الأنفاس، وزاغ البصر، وليس ثم مناص أو مفر، فناديت صارخا : يا أرحم الراحمين بك أستغيث وأستجير، ـ وعند الشدة يعرف الإنسان ربه ـ وسرعان ما نكصت جحافل اللهب مرتدة خابية ثم اختفت فى جوف اليم، وكأن شيئا لم يكن، ونظرت فإذا بى أجدنى جالسا على مقعدى فوق الصخرة الممتدة فى الماء، وإذا الشمس ساطعة كما هى ترسل أشعتها العسجدية إلى سطح البحر الساجى الوديع، ومددت يدى إلى قدح الشراب لأعب الثمالة المتبقية فيه، كى أرطب حلقى الجاف، ولسانى اليابس، وقمت متثاقلا أجر قدمى من الإعياء، وأنا أتلفت حولى كالمرتاب، لأستيقن من أن الحياة الدنيا مازالت تتحرك فى مجلسها المألوف، وتجرى على سننها المعهودة ، ورحت أتمتم ـ وأنا كاسف النفس، جائش الشعور، قائلاً :
لو أن الإنسان يتدبر القرآن بنظرات ثاقبة، وأحاسيس مرهفة؛ لتكشفت له حقيقة الوجود، ولشاهد عظمة الخالق المعبود، ولما قارف إثما، أو دنس الأرض بخطيئة. ولكن ... لمن خلقت الجنة والنار؟
نشرت فى مجلة "الأزهر" السنة التاسعة والخمسون ـ صفر 1407 هـ / أكتوبر 1986 م من صفحة 252 الى ص254
كتبتها: يارا منذر – حفيدة الشاعر فى رمضان-يونيو 2018
مواضيع مماثلة
» مركبة الفضاء فى رحلة الإسراء
» حوار مع... (قصة قصيرة)
» فى البرزخ - قصة قصيرة
» العقدة: قصة قصيرة للشاعر محمد صان الدين
» قصة المرآة : محمد عبدالرحمن صان الدین ...قصة فلسفية قصيرة
» حوار مع... (قصة قصيرة)
» فى البرزخ - قصة قصيرة
» العقدة: قصة قصيرة للشاعر محمد صان الدين
» قصة المرآة : محمد عبدالرحمن صان الدین ...قصة فلسفية قصيرة
منتدى محبى الشاعر محمد صان الدين :: الأبداعات النثرية للشاعر محمد صان الدين :: قصص ومقالات بقلم الشاعر محمد صان الدين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى