صمت العصافير
صفحة 1 من اصل 1
صمت العصافير
صمت العصافير
بقلم/ أ.د. منذر صان الدين
لِمَ لا تغنى يا طيور لِمَ لا تطيري فى البكور
مالى أراك قد انطويت فلا رفيف ولا ظهور
وركنت للصمت الحزين وأنة القلب الحسير
ماذا دهاك فصرت دامية المدامع والشعور
وتحول المرح الجميل إلى أنين أو زفير
تبدو الأبيات العبقرية السابقة المجتزئة من قصيدة صمت الطيور للشاعر العبقرى محمد صان الدين وكأنها تتحدث عن حادثة لا وجود لها فى ارض الواقع ابتدعتها مخيلة الشاعر الجامحة ليعبر بها عن الانكسار الذى أصاب بعض البشر الذين يمتلكون قلوبا طيبة رقيقة كقلوب العصافير والألم الذى يعتصر قلوبهم البيضاء جراء ما يحدث حولهم من مآسي وأهوال وما يتعرضون له من ظلم لا مثيل له من إخوانهم من بني البشر لكن الحقيقة هي أن صمت الطيور حدث بالفعل على أرض الواقع وبالتحديد فى الصين فى حادثة شهيرة عرفت بكارثة حملة القضاء على الأشرار الأربعة.
الأشرار الأربعة:
فى عام 1958 أطلق الدكتاتور الصيني الراحل "ماو تسى تونج" صرخته الشهيرة مناديا شعبه: "أيها الناس اقتلوا الأشرار الأربعة التى تعوق تقدم امتنا .. اقتلوا الذباب والبعوض والفئران"، أيها الشعب الطيب: طاردوا العصافير واقتلوها أينما كانت وحيثما ذهبت دون أن يخدعكم جمال ريشها وبراءة مظهرها فهي مليئة بالخبث والجشع وهى السبب الحقيقي لجوعكم وشقاءكم. نسى الدهماء وعوام الناس ما وهبته العصافير لهم من سعادة ونفذوا أوامر زعيمهم بحذافيرها دون تردد أو تفكير فى العواقب ودون أن يستمعوا إلى نصائح الحكماء منهم فأصبح مصير كائن مسالم من أرق وأبدع مخلوقات الله فى مهب الريح. نعم ، كان "ماو" يقصد العصافير الدورية بالذات وهى تلك المخلوقات الصغيرة المرحة التى تعودنا على سماع أصوات زقزقاتها المتفائلة خارج نوافذ منازلنا وهى تسبح بحمد ربها مع ظهور أول خيط للضوء، قبل أن تتفرق فى كل اتجاه باحثة عن رزقها وما يسد رمق أبنائها الضعاف. فلماذا أصبحت هذه الكائنات البريئة عدوة لماو وشعبه ..؟ أعنى أننا يمكن أن نتفهم دوافع أى شخص يشعر بالكره تجاه الذباب والبعوض والفئران، ولكن ما هو جرم العصافير الرهيب الذى جعل الزعيم "ماو" يقرر التخلص منها باصرار..؟
مذبحة العصافير:
لقد أراد الدكتاتور أن يضاعف إنتاج الصين من محاصيل القمح والذرة والأرز لتحقق الاكتفاء الذاتي، ولما كانت الأراضي الصالحة لزراعة هذه الحبوب غير كافية لتحقيق طموحه، ولا توجد وسيلة لإضافة أراضى جديدة فى ذلك الوقت ولأن ماو كان ديكتاتورا جاهلا لا يسمح لأراء المختصين فقد أمر الفلاحين فى المزارع الجماعية بأن يزرعوا الأرض بكمية من البذور أكثر عشر مرات من الكمية التى كانت تزرع من قبل .. ثم قام بحظر استخدام المخصبات الصناعية (الكيماوي) بحجة أنها تضعف الأرض وتستهلك العملة الصعبة التي تنفق فى استيرادها ثم كان الفرمان العجيب الثالث: اقتلوا جميع العصافير فهى عدوكم الأول ، إنها تأكل الحبوب التي تبذرونها وتسرق كمية لا يستهان بها من الحبوب قبل أن تحصدونها، إنها شيطان يجب أن تتخلصوا منها، ولم يجرؤ أحد على معارضة الزعيم الدكتاتور الملهم خاصة فى وجود دعاية مكثفة ومئات التقارير الكاذبة عن أضرار العصافير نشرها من لا ضمير لهم رغبة فى التقرب من الدكتاتور، وابتكرت العقول الشريرة خطة شيطانية لتنفيذ هذه المهمة القذرة اعتمدت على أن يخرج كُلّ سكان القرى إلى الحقولِ فى نوبات تستمر طيلة اليوم بصورة متصلة وهم يحملون ما توفر لديهم من طبولِ وقدورِ ومقالي، وأواني معدنية، وهناك يضربون على هذه الأدوات ويَصْرخون ، ويَصدرون أكبر قدر ممكن من الضوضاءَ وهو ما سيصيب العصافير بفزع رهيب يجعلها تترك مراقدها وأعشاشها وتطير فى السماء ، وبعد فترة من الطيران والتحليق ستحاول العصافير الجائعة المجهدة أن تستريح على أسطح المنازل ولكنها ستجد هناك الأطفال والنساء فى انتظارها وهم يدقون ويخبطون على أوانيهم بلا رحمة، ستهرب العصافير إلى قمم الأشجار العالية لتلتقط أنفاسها ولكنها لن تجدها فقد أمر الزعيم بإزالتها جميعا. وهكذا سَتَستمرُّ العصافير تدَور فى السماء، مراراً وتكراراً، بشكل لانهائي حتى، تعجز أجنحتها الرقيقة عن الخفق والطيران فتسْقطَ مِنْ السماءِ ميتة من الإعياء أو غير قادرة على الحراك ليجمعها الفلاحون ويذبحونها دون رحمة فهي عدوهم اللدود كما أقنعهم الإعلام .. لقد كانت بالفعل خطة جهنمية متقنة تفوح منها رائحة عقول فاسدة شريرة دموية لا مثيل لها ولكن ماذا كانت نتيجتها..؟
الجريمة والعقاب:
أثبتت الخطة فاعليتها الشديدةً، ففى الحال امتلأت القُرى بآلاف وآلاف منِ جثث العصافيرِ المعذبة المقتولة، والتقطت الصور لقرويّين يهشمون رؤوس العصافير وهى فى النزاع الأخير أو يقفون فخورينِ أمام أكداس من جثثِ العصافير، واختفت العصافير من السماء ولم تعد تسمع أصوات زقزقتها الشجية وحق لشاعر غريب عن الصين كالشاعر محمد صان الدين أن يتساءل فى دهشة:
لم لا تغنى يا طيور ...لم لا تطيري فى البكور ..؟
لكن ما حدث بعد ذلك للصينيين كان شيئا مرعبا ومأساة رهيبة تفضح لنا القروية الصينية السيدة "ليو" أبعادها فتقول:
"إننى أتتذكر جيدا شتاءَ 1959-1960 كنت أسير جائعة منهكة عائدة إلى قريتى الصغيرة التى تأوي 300 نسمة، وعلى جانبي الطريق كنت أمر بجثث لبشر ماتوا من الجوع، وفي الحقولِ القاحلةِ كان هناك آخرين موتى، وبينهم كان يزَحفَ الباقون على قيد الحياةَ ببطء على أيديهم ورُكَبِهم وهم يبحثون فى يأس عن النجيل وجذورِ الأعشاب البريةِ ليأَكْلوها. آخرون غاصوا في طين البرك العفنةَ يُفتّشونَ عن وجبة من الضفادعِ... كَانَ الشتاء شديد البرودة، ورغم ذلك لم يكن الناس يلبسون سوى خرقِ بالية رقيقةِ وقذرةِ رَبطتْ بأعواد الأعشاب السامة وحَشتْ بالقشِّ. رَأيتْ بعض جيرانى وأقربائي يخرجون من منازلهم ليسيروا خطوتين أو ثلاثة ثم يسقطون ميتين ببساطة و بدون صوت. . . صمت مجنون كان يخيم على كل شئ، ثيران القريةَ ماتتْ وأكلت، الدجاجَ والبط بل وَالكلاب كَانتْ قَدْ أُكِلتْ منذ زمن بعيد وبالطبع لم يكن هناك أصوات عصافير. ما كان أطول الليل فحتى خَدْش الجرذانِ والفئران لم يعد يسمع فهم أيضاً كَانوا قَدْ أُكِلوا أَو جُوّعوا إلى الموتِ. المَوتى تُرِكوا فى مكانهم فلا أحد كَانَ يمتلك القوّةُ لدَفْنهم. . ." لم ينج من هذه المجاعة فى قريتى الصغيرة سوى 80 شخص". إن ما حكته لنا هذه الناجية المحظوظة لم يكن إلا مثالا لما حدث فى الكثير من قرى الصين وأدى إلي موت أكثر من 30 مليون صينى فى أسوأ مجاعة عرفها التاريخ البشرى ولكن ما علاقة قتل العصافير بهذه الكارثة المروعة..؟
أين الخطأ...؟
يدرك الفلاحون المجربون ، ويتفق معهم العلماء المدققون أن مضاعفة عدد البذور المزروعة فى نفس الأرض بدون إضافة مخصبات يجيع جميع النباتات ويجعلها تنمو ضعيفة ويخفض إنتاجها من الحبوب، كما أن النباتات الكثيفة الضعيفة تصبح مرتعا خصبا للآفات المدمرة والحشرات النهمة من كل نوع، وبدون عصافيرِ تدور فى سماء الصين، أزيلت المراقبة الرئيسية الصارمة التي كانت تقلل من سطوة تلك الآفات، فالعصافير لا تأكل الحبوب فقط بل تترصد للحشرات والديدان وتلتهمها، لذلك وفى غيبة العصافيرِ اليقظة التى كانت تخدم الناس دون مقابل، تكاثرت الحشرات بصورة جنونية وبدأت تَلتهمُ النباتات المنهكة بشراهة بالغة دون أن تجد عصفورا واحدا يوقفها عند حدها ولم يكن لدى الصين مبيدات حشرية فعالة فهبطت إنتاجية محاصيل الحبوبِ في كافة أنحاء البلادِ إلى مستوى خطير أدى إلى مجاعة حقيقية استمرت عامين كاملين حتى اضطرت الصين إلى العودة لاستيراد المخصبات الصناعية والمبيدات ثم الحبوب ثم قامت باستيراد العصافير الدورية من روسيا لتطلقها فوق مزارع الحبوب الصينية فى محاولة يائسة لإعادة التوازن إلى بيئتها مرة أخرى.
درس لكي نتعلمه:
يعتقد البعض أن الطبيعة أوجدت العصافير، لا لشيء إلا لكى تزعج البشر وتستولى على غذائهم فحق عليها القتل والتدمير، ولم يستطع هؤلاء بعقولهم المحدودة أن يدركوا أبدا أن الله عز وجل خلق كل كائن على وجه هذه الأرض بقدر وحكمة بالغة ليؤدى دورا مرسوما بدقة بحيث لا يطغى كائن على آخر فتفسد الأرض، ولم تفهم القلوب السوداء انها لا تعيش الا بفضل اصحاب القلوب البيضاء الذين يعيشون بينهم. كما لم يستطع هؤلاء أن يفهموا أبدا مغذى الرحمة التى تأمرنا بها جميع الأديان والتى يبينها الحديث الشريف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له صدقة" لم يفهموا كل هذا أو يؤمنوا به وساروا خلف جهل وحقد والحاد الزعيم الملهم والإعلام الكاذب فعذبوا وقتلوا العصافير– تلك الكائنات البريئة المسالمة فلا هم أطعموها ولا هم تركوها تأكل من حشرات الأرض فكان العقاب سريعا شاملا وكان الدرس قاسيا فهل من معتبر فليست الصين هى الدولة الوحيدة التى طاردت وحبست وقتلت الكائنات الطيبة.
تحذير
هذا النص محمي بموجب قوانين حفظ حقوق المليكة الفكرية ويسمح بنقل النص او باقتباس جزء منه مع ذكر اسم الكاتب، كما يمنع منعا باتا اقتباس او نقل الموضوع باي طريقة
الكترونية او غير الكترونية الى كتب او اسطونات تجارية دون اذن مسبق من صاحب المقال.
بقلم/ أ.د. منذر صان الدين
لِمَ لا تغنى يا طيور لِمَ لا تطيري فى البكور
مالى أراك قد انطويت فلا رفيف ولا ظهور
وركنت للصمت الحزين وأنة القلب الحسير
ماذا دهاك فصرت دامية المدامع والشعور
وتحول المرح الجميل إلى أنين أو زفير
تبدو الأبيات العبقرية السابقة المجتزئة من قصيدة صمت الطيور للشاعر العبقرى محمد صان الدين وكأنها تتحدث عن حادثة لا وجود لها فى ارض الواقع ابتدعتها مخيلة الشاعر الجامحة ليعبر بها عن الانكسار الذى أصاب بعض البشر الذين يمتلكون قلوبا طيبة رقيقة كقلوب العصافير والألم الذى يعتصر قلوبهم البيضاء جراء ما يحدث حولهم من مآسي وأهوال وما يتعرضون له من ظلم لا مثيل له من إخوانهم من بني البشر لكن الحقيقة هي أن صمت الطيور حدث بالفعل على أرض الواقع وبالتحديد فى الصين فى حادثة شهيرة عرفت بكارثة حملة القضاء على الأشرار الأربعة.
الأشرار الأربعة:
فى عام 1958 أطلق الدكتاتور الصيني الراحل "ماو تسى تونج" صرخته الشهيرة مناديا شعبه: "أيها الناس اقتلوا الأشرار الأربعة التى تعوق تقدم امتنا .. اقتلوا الذباب والبعوض والفئران"، أيها الشعب الطيب: طاردوا العصافير واقتلوها أينما كانت وحيثما ذهبت دون أن يخدعكم جمال ريشها وبراءة مظهرها فهي مليئة بالخبث والجشع وهى السبب الحقيقي لجوعكم وشقاءكم. نسى الدهماء وعوام الناس ما وهبته العصافير لهم من سعادة ونفذوا أوامر زعيمهم بحذافيرها دون تردد أو تفكير فى العواقب ودون أن يستمعوا إلى نصائح الحكماء منهم فأصبح مصير كائن مسالم من أرق وأبدع مخلوقات الله فى مهب الريح. نعم ، كان "ماو" يقصد العصافير الدورية بالذات وهى تلك المخلوقات الصغيرة المرحة التى تعودنا على سماع أصوات زقزقاتها المتفائلة خارج نوافذ منازلنا وهى تسبح بحمد ربها مع ظهور أول خيط للضوء، قبل أن تتفرق فى كل اتجاه باحثة عن رزقها وما يسد رمق أبنائها الضعاف. فلماذا أصبحت هذه الكائنات البريئة عدوة لماو وشعبه ..؟ أعنى أننا يمكن أن نتفهم دوافع أى شخص يشعر بالكره تجاه الذباب والبعوض والفئران، ولكن ما هو جرم العصافير الرهيب الذى جعل الزعيم "ماو" يقرر التخلص منها باصرار..؟
مذبحة العصافير:
لقد أراد الدكتاتور أن يضاعف إنتاج الصين من محاصيل القمح والذرة والأرز لتحقق الاكتفاء الذاتي، ولما كانت الأراضي الصالحة لزراعة هذه الحبوب غير كافية لتحقيق طموحه، ولا توجد وسيلة لإضافة أراضى جديدة فى ذلك الوقت ولأن ماو كان ديكتاتورا جاهلا لا يسمح لأراء المختصين فقد أمر الفلاحين فى المزارع الجماعية بأن يزرعوا الأرض بكمية من البذور أكثر عشر مرات من الكمية التى كانت تزرع من قبل .. ثم قام بحظر استخدام المخصبات الصناعية (الكيماوي) بحجة أنها تضعف الأرض وتستهلك العملة الصعبة التي تنفق فى استيرادها ثم كان الفرمان العجيب الثالث: اقتلوا جميع العصافير فهى عدوكم الأول ، إنها تأكل الحبوب التي تبذرونها وتسرق كمية لا يستهان بها من الحبوب قبل أن تحصدونها، إنها شيطان يجب أن تتخلصوا منها، ولم يجرؤ أحد على معارضة الزعيم الدكتاتور الملهم خاصة فى وجود دعاية مكثفة ومئات التقارير الكاذبة عن أضرار العصافير نشرها من لا ضمير لهم رغبة فى التقرب من الدكتاتور، وابتكرت العقول الشريرة خطة شيطانية لتنفيذ هذه المهمة القذرة اعتمدت على أن يخرج كُلّ سكان القرى إلى الحقولِ فى نوبات تستمر طيلة اليوم بصورة متصلة وهم يحملون ما توفر لديهم من طبولِ وقدورِ ومقالي، وأواني معدنية، وهناك يضربون على هذه الأدوات ويَصْرخون ، ويَصدرون أكبر قدر ممكن من الضوضاءَ وهو ما سيصيب العصافير بفزع رهيب يجعلها تترك مراقدها وأعشاشها وتطير فى السماء ، وبعد فترة من الطيران والتحليق ستحاول العصافير الجائعة المجهدة أن تستريح على أسطح المنازل ولكنها ستجد هناك الأطفال والنساء فى انتظارها وهم يدقون ويخبطون على أوانيهم بلا رحمة، ستهرب العصافير إلى قمم الأشجار العالية لتلتقط أنفاسها ولكنها لن تجدها فقد أمر الزعيم بإزالتها جميعا. وهكذا سَتَستمرُّ العصافير تدَور فى السماء، مراراً وتكراراً، بشكل لانهائي حتى، تعجز أجنحتها الرقيقة عن الخفق والطيران فتسْقطَ مِنْ السماءِ ميتة من الإعياء أو غير قادرة على الحراك ليجمعها الفلاحون ويذبحونها دون رحمة فهي عدوهم اللدود كما أقنعهم الإعلام .. لقد كانت بالفعل خطة جهنمية متقنة تفوح منها رائحة عقول فاسدة شريرة دموية لا مثيل لها ولكن ماذا كانت نتيجتها..؟
الجريمة والعقاب:
أثبتت الخطة فاعليتها الشديدةً، ففى الحال امتلأت القُرى بآلاف وآلاف منِ جثث العصافيرِ المعذبة المقتولة، والتقطت الصور لقرويّين يهشمون رؤوس العصافير وهى فى النزاع الأخير أو يقفون فخورينِ أمام أكداس من جثثِ العصافير، واختفت العصافير من السماء ولم تعد تسمع أصوات زقزقتها الشجية وحق لشاعر غريب عن الصين كالشاعر محمد صان الدين أن يتساءل فى دهشة:
لم لا تغنى يا طيور ...لم لا تطيري فى البكور ..؟
لكن ما حدث بعد ذلك للصينيين كان شيئا مرعبا ومأساة رهيبة تفضح لنا القروية الصينية السيدة "ليو" أبعادها فتقول:
"إننى أتتذكر جيدا شتاءَ 1959-1960 كنت أسير جائعة منهكة عائدة إلى قريتى الصغيرة التى تأوي 300 نسمة، وعلى جانبي الطريق كنت أمر بجثث لبشر ماتوا من الجوع، وفي الحقولِ القاحلةِ كان هناك آخرين موتى، وبينهم كان يزَحفَ الباقون على قيد الحياةَ ببطء على أيديهم ورُكَبِهم وهم يبحثون فى يأس عن النجيل وجذورِ الأعشاب البريةِ ليأَكْلوها. آخرون غاصوا في طين البرك العفنةَ يُفتّشونَ عن وجبة من الضفادعِ... كَانَ الشتاء شديد البرودة، ورغم ذلك لم يكن الناس يلبسون سوى خرقِ بالية رقيقةِ وقذرةِ رَبطتْ بأعواد الأعشاب السامة وحَشتْ بالقشِّ. رَأيتْ بعض جيرانى وأقربائي يخرجون من منازلهم ليسيروا خطوتين أو ثلاثة ثم يسقطون ميتين ببساطة و بدون صوت. . . صمت مجنون كان يخيم على كل شئ، ثيران القريةَ ماتتْ وأكلت، الدجاجَ والبط بل وَالكلاب كَانتْ قَدْ أُكِلتْ منذ زمن بعيد وبالطبع لم يكن هناك أصوات عصافير. ما كان أطول الليل فحتى خَدْش الجرذانِ والفئران لم يعد يسمع فهم أيضاً كَانوا قَدْ أُكِلوا أَو جُوّعوا إلى الموتِ. المَوتى تُرِكوا فى مكانهم فلا أحد كَانَ يمتلك القوّةُ لدَفْنهم. . ." لم ينج من هذه المجاعة فى قريتى الصغيرة سوى 80 شخص". إن ما حكته لنا هذه الناجية المحظوظة لم يكن إلا مثالا لما حدث فى الكثير من قرى الصين وأدى إلي موت أكثر من 30 مليون صينى فى أسوأ مجاعة عرفها التاريخ البشرى ولكن ما علاقة قتل العصافير بهذه الكارثة المروعة..؟
أين الخطأ...؟
يدرك الفلاحون المجربون ، ويتفق معهم العلماء المدققون أن مضاعفة عدد البذور المزروعة فى نفس الأرض بدون إضافة مخصبات يجيع جميع النباتات ويجعلها تنمو ضعيفة ويخفض إنتاجها من الحبوب، كما أن النباتات الكثيفة الضعيفة تصبح مرتعا خصبا للآفات المدمرة والحشرات النهمة من كل نوع، وبدون عصافيرِ تدور فى سماء الصين، أزيلت المراقبة الرئيسية الصارمة التي كانت تقلل من سطوة تلك الآفات، فالعصافير لا تأكل الحبوب فقط بل تترصد للحشرات والديدان وتلتهمها، لذلك وفى غيبة العصافيرِ اليقظة التى كانت تخدم الناس دون مقابل، تكاثرت الحشرات بصورة جنونية وبدأت تَلتهمُ النباتات المنهكة بشراهة بالغة دون أن تجد عصفورا واحدا يوقفها عند حدها ولم يكن لدى الصين مبيدات حشرية فعالة فهبطت إنتاجية محاصيل الحبوبِ في كافة أنحاء البلادِ إلى مستوى خطير أدى إلى مجاعة حقيقية استمرت عامين كاملين حتى اضطرت الصين إلى العودة لاستيراد المخصبات الصناعية والمبيدات ثم الحبوب ثم قامت باستيراد العصافير الدورية من روسيا لتطلقها فوق مزارع الحبوب الصينية فى محاولة يائسة لإعادة التوازن إلى بيئتها مرة أخرى.
درس لكي نتعلمه:
يعتقد البعض أن الطبيعة أوجدت العصافير، لا لشيء إلا لكى تزعج البشر وتستولى على غذائهم فحق عليها القتل والتدمير، ولم يستطع هؤلاء بعقولهم المحدودة أن يدركوا أبدا أن الله عز وجل خلق كل كائن على وجه هذه الأرض بقدر وحكمة بالغة ليؤدى دورا مرسوما بدقة بحيث لا يطغى كائن على آخر فتفسد الأرض، ولم تفهم القلوب السوداء انها لا تعيش الا بفضل اصحاب القلوب البيضاء الذين يعيشون بينهم. كما لم يستطع هؤلاء أن يفهموا أبدا مغذى الرحمة التى تأمرنا بها جميع الأديان والتى يبينها الحديث الشريف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له صدقة" لم يفهموا كل هذا أو يؤمنوا به وساروا خلف جهل وحقد والحاد الزعيم الملهم والإعلام الكاذب فعذبوا وقتلوا العصافير– تلك الكائنات البريئة المسالمة فلا هم أطعموها ولا هم تركوها تأكل من حشرات الأرض فكان العقاب سريعا شاملا وكان الدرس قاسيا فهل من معتبر فليست الصين هى الدولة الوحيدة التى طاردت وحبست وقتلت الكائنات الطيبة.
تحذير
هذا النص محمي بموجب قوانين حفظ حقوق المليكة الفكرية ويسمح بنقل النص او باقتباس جزء منه مع ذكر اسم الكاتب، كما يمنع منعا باتا اقتباس او نقل الموضوع باي طريقة
الكترونية او غير الكترونية الى كتب او اسطونات تجارية دون اذن مسبق من صاحب المقال.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى